مدينة الزهراء
فتحت الاندلس في عام اثنان وتسعون للهجرة، وبعد قرنين من الزمان بلغت الفوارق ذروتها بين الغرب الاسلامي في الاندلس والغرب المسيحي في بقية اوروبا، وذلك في مجالات القوة والتنظيم العسكري، والرخاء الاقتصادي، والتعليم، والفنون والمعمار.
مدينة الزهراء تمثل احدي ثمرات التميز. بناها معلن الخلافة في الاندلس، عبد الرحمن الناصر، الامير الثامن من سلالة عبد الرحمن الداخل، صقر قريش. يقول المؤرخ ابن خلدون عن حقبة الناصر لدين الله: “ومدت اليه امم النصرانية من وراء الدروب يد الاذعان، واوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من روما والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يعن في مرضاته. ووصل الى سدته الملوك من اهل جزيرة الاندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب اليها من الثغور الوفية، فقبلوا يده والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبة”.
يقول ايضاً المؤرخ المقري في نفح الطيب: “ذكر ابن حيان وغير واحد ان مُلك الناصر بالاندلس كان في غاية الضخامة ورفعة الشأن، وهادنه الروم وازدلفت اليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تبق امة سمعت به من ملوك الروم والافرنجة والمجوس وسائر الامم الا وفدت خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية”.
يوجز ابن الابار بالوصف التالي: “اذعن له ملوك الروم ورغبوا في مصاهرته”.
كان من الطبيعي ان يتطلع الخليفة الى بناء مدينة تليق بالتطورات، خصوصاً وان قرطبة ضاقت على سكانها رغم كل التوسعات، ضاق قصر الخلافة في قرطبة بالحاشية والادارة، وارتفع الضجيج وسط المدينة وحول القصر قرب المسجد الجامع. اختير موقع الزهراء على مسافة ثمانية كيلومترات من قرطبة، وخلال اعوام اتصل العمار بين المدينتين.
في الزهراء التقى الرواي سليمان مع الامير هشام وتعلم معه درس اسبوعي، وتفرج في طفولته على حديقة الحيوان في الزهراء، وعاد للتواصل لاحقاً مع هشام عندما اصبح خليفة محجوزاً عليه بين اسوار الزهراء.
في عهدي والد هشام، الخليفة الحكم المستنصر بالله، وجده الناصر، كانت الزهراء مقر الخلافة والادارة وضرب النقود، ووصفها الادريسي الذي زارها بالقول: “مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة…. فكان الجزء الاعلى منها قصوراً يقصر الوصف عن صفاتها، والجزء الاوسط بساتين وروضات، والجزء الثالث فيه الديار والجامع.
راوينا سليمان يقدم تفاصيل دقيقة شاملة عن حياة الزهراء. كتب المؤرخين الذين عايشوا حياة المدينة القصيرة لم تبخل بالجزئيات هي الاخري. خلفاء وامراء بني أمية اشتهروا بالبناء المعماري مثل المسجد الاقصى في القدس والجامع الاموي في دمشق ومدينة الرصافة في صحراء الشام وقصور اريحا والاردن المليئة بالرسومات. عبد الرحمن الداخل اقام في قرطبة رصافة له يختلي فيها ولا زالت المنطقة تحمل اسمها للان، والعديد من مدن الاندلس بناها امراء بني أمية مثل المرية، وبلد الوليد، ومجريط التي اصبحت مدريد، وغيرها من المدن القائمة للان، لكن الزهراء دمرتها اياد اسلامية قبل ان تبلغ الخمسين من العمر وتخربت في عز شباب وقوة الاندلس، ومن بعدها اخذ الانحدار التدريجي طريقة حتى انتهى عهد الغرب الاسلامي تماماً.
اهتم الخليفة الناصر بأنجاز سريع للقصور في الجزء الاعلى، وببناء الجامع في الجزء المنخفض حتى يتمكن من الانتقال للزهراء قبل اكتمال البناء. تبع ذلك بتشييد الاسواق والحمامات والدور للاداريين والقوات وغيرهم. مساحة الزهراء العليا الف وخمسمئة متر في سبعمئة وخمسين. ومساحة الجامع خمسين في ثلاثين متر، وصلى فيه الخليفة للمرة الاولى يوم الجمعة التاسع من شعبان سنة ثلاثمئة وتسعة وعشرين.
اشرف على البناء ولي العهد الحكم، واكتملت المدينة بعد توليه الخلافة. اشترك في البناء عشرة الاف رجل يومياً منهم ثلاثمئة من حذاق البناة ومئتان من النجارين وخمسمئة من المختصين الاخرين. ذكر المؤرخ المعاصر ابن حيان، ان عدد سواري الرخام التي استخدمت ايام الناصر، اي قبل اكتمال البناء، كانت اربعه الاف وثلاثمئة وثلاث عشرة، منها الف وثلاث عشرة احضرت من افريقيه، وتسع عشرة من القسطنطينية، ومئة واربعين هدية من ملك رومة.
المياه سيرت الى الزهراء عبر قنوات ارضية لمسافة خمسة عشر كيلومترا من الجبال المجاورة، وصبت في خزان وزعها عبر مواسير رصاصية، لم يستعمل مثلها في العالم انذاك، لتصل للقصور والبيوت والمراحيض والحمامات وبرك السباحة والسمك والنوافير.
في الزهراء استقبل الناصر السفراء والملوك مما يرد ذكره بالتفصيل في “راوي قرطبة” وبعد وفاة الناصر في المدينة يوم الثاني من رمضان سنة 350 هجرية، تقلد ابنه الحكم الخلافة اذ اختاره والده من بين اخوته العشرة، وفي الزهراء مات الحكم بعد 15 عام وكان قد رضخ لرغبة صبح وقلد طفله هشام ولاية العهد ولم يكن قد بلغ سن الرشد. بدأت المؤامرات كما يرد بالتفصيل في “راوي قرطبة” وبما هو اشبه بالخيال من صراعات ودور النساء، حتى تحكم محمد العامري اثر تخلصه من الحلفاء الخصوم الاعداء واعتقل الخليفة الطفل في الزهراء وتلقب بالحاجب المنصور.
الغى المنصور دور الزهراء واقام مدينة خاصة به سماها الزاهرة، ثم تولى ولديه من بعده تباعاً حتى ثار بقايا الامويين عام 399 للهجرة، ولكن اي منهم لم يكن بوزن الاجداد اذ قضوا ثلاثة عقود من الخوف واللجؤ والسجون والمطاردات كما يرد في الرواية بالاعتماد على مصادر التاريخ الموثقة.
فتنة، فحرب اهلية، فدمار لزاهرة المنصور، وتدمير للزهراء واحراقها ونهب خيراتها، حتى جدرانها وحجارتها بيعت لسد عجز خزائن من تكاثروا على الحكم واحدا بعد الاخر.
اثناء 200 عام تلت اندثرت الزهراء في بطن الجبل تحت الرمال، وعندما احتل القشتاليون قرطبة عام 631 هجرية كانت ذكرى واسم الزهراء قد ضاعت وبقيت كذلك حتى ترجم كتاب نفح الطيب الى اللغة الانجليزية قبل حوالي قرن ونصف فقط، فعرف الباحثون اسمها وموقعها واوصافها. ازيل التراب عن اطرافها وواصلت الانتظار حتى سخر الله لها السوق الاوربية المشتركة التي مولت اعادة ترميمها الجاري للان على اثر دخول اسبانيا للسوق الاوروبية.